الثلاثاء، 4 سبتمبر 2012

اثنان، أربعة...ستة

السيجارة تحترق على شفتيه وهو يحدثني على الهاتف، هذا ما خمنته لأنه يدخن كثيرًا. أقول له دائمًا بأن يتوقف عن تلك العادة، وأحيانًا كنت أعطي لنفسي الحق بسحبها من فمه وسحقها في منفضة السجائر، يبتسم، ثم يبدأ بحكي نكتة طريفة ، نكته كلها كانت طريفة و بها نوع من الغرابة، أقول غرابة في طريقة حكيها لي. أضحك. أضحك ولا أتوقف حتى أعي تفاهة النكتة، وأنا منهمكة بالضحك، يخرج سيجارة أخرى ليهبها الاشتعال. أصمت. السيجارة عالمه الخاص الذي لا يمكنه التنازل عنه، يحبطني في كل مرة أحاول الدخول إلى عالمها، سأتركه مع سيجارته. الحديث عن السيجارة ليس مهمًا، المهم هو ما كان يحدثني به على الهاتف. اثنان وأربعة، أقصد الرقم أربعة وعشرون.
الرقم الأسطورة الذي يحمل كل شيء، الأحلام بتفاسيرها، المشاعر بحرقتها، والحكايات بخرافاتها... هذا   ما كان يقول. فآمنت. علمني العد والانتظار على خفقات الأربعة والعشرين. لم يكن ذلك مملاً أبدًا. كنت ألون لحظات الانتظار بالعد الذي يفضي إلى الرقم  نفسه. أشرك اثنين بأربعة، أعد ساعات اليوم. أعد الاثني عشرة للساعة الحائطية بالإثني عشرة لساعتي اليدوية ثم أعود. اثنان وأربعة أعداد زوجية، هو وأنا. أنا اثنان وهو أربعة. اجتماع هو وأنا واحد أو اثنان في واحد. كل هذا كان يقوله لي على الهاتف وأعيد صياغته على طريقتي في لحظات انتظاري له يومًا بيوم، ساعة بساعة...

اليوم الرابع والعشرون:

النهوض الباكر في هذا اليوم متعة. نهضت من الفراش واتجهت مباشرة إلى الحمام. تقيأت كثيرًا ولم أفرغ شيئًا. كان ذلك بسبب العد والمعادلات التي سهرت طوال ليلة الثالث والعشرين لأحل لغزها. هويت على أرض الحمام. لا حركة. صمت. في القطار نمت طوال الطريق، أقصد توقفت عن العد. ساعتان فقط ونلتقي. التقينا والسيجارة بفمه. ابتسمت. بداخلي كان كل شيء متوقفًا. كنت أتنفس فقط وأسمع دقات قلبي الخفيفة. جسدي بارد. أحس بالبرد. سؤال واحد دار في رأسي، اليوم الرابع والعشرون ثم... ثم ماذا بعد؟ أي رقم آخر سيتبعه؟ أمسك بيدي الباردة ليداعبها. يداه دافئتان. قبل يدي. ابتسمت. ابتسم هو الآخر. أخرج سيجارة أخرى ليبث فيها الاشتعال. راقبته وهو يجر نفسًا عميقًا ثم قال وهو ينظر إليّ: أريدك أن تكوني سيجارتي التي لا تنطفئ. صمتت. راقني تعبيره كثيرًا وآلمني تشبيهه لي بالسيجارة. كتمتها في نفسي لأني كنت أعرف بأن تعبيره هذا هو الحقيقة. تحدث عن أمور كثيرة. أنا لم أقل شيئًا. لم أعقب. لم أتدخل. لا شيء. كنت بكماء. تابع حديثه: ما الذي دونته في كتابك الصغير عن تفسير الأحلام؟ ابتسمت بصمت. لم أجب. ابتسمت فقط. بقي هو صامتا لبرهة ثم تابع: قولي أنا أنتظر، أريد أن أسمعك الآن. فرت كل الكلمات من حلقي، لم أعد أملك مفاتيحها. كنت أفكر بأشياء أكبر من الحديث، أغلب هذه الأشياء لم أكن أفهمها أو أعيها. جسدي بارد. هو لم يلاحظ ذلك. كنت أحس به يتجول بنظراته في تقاطيع وجهي. أحس بارتباكي. لاحظ ارتعاش يدي على طاولة المقهى. لثم يدي بكلتا يديه قبلها. ثم أخرج سيجارة أخرى ليبثها غضبه المشتعل. تكلمت. تحدث كثيرًا ولم أقل شيئًا. أحس بالاختناق. أشعر بالاختناق دائمًا حين يعاكسني لساني. هو لم يفهم ذلك. كان يحدق بي طوال الوقت. قال اني أصبحت يومه الرابع والعشرين. ماذا آخر؟ لست أدري. في اللحظة التي أخرج فيها سيجارة أخرى فكرت. في اللحظة التي أشعل فيها سيجارة أخرى فكرت. السجن في يوم واحد من شهر واحد ومن سنة واحدة. دخلت سجن الرقم طواعية. نفث دخان سيجارته عاليًا. لفني الدخان. أختنق. أنا. ببطء. هو ينتظر كلماتي. أنا فارغة. نبضاتي الخفيفة تثاقلت. جسدي تحول إلى صقيع. بدأت أتهاوى من أعلى قمم أفكاري. لم أعد قادرة على التركيز. الصور ازدادت ضبابية. لم أعد أسمع أو أرى شيئًا سوى صوت زفيره وهو يلي تمايل دخان السيجارة. أطفأها في المنفضة. انطفأت أنا أيضًا. انتظر أن أبدأ  فلسفتي عن كتاب تفسير الأحلام. لم أكن قادرة على الكلام، لأني ببساطة، كنت ميتة. وجثتي الملقاة على أرض الحمام تقر ذلك. صعدت عاليًا حتى لم أعد قادرة على لمس جسدي. رقم واحد ظل يتردد في أرجاء الحمام. اثنان وأربعة. اثنان هو وأنا. أربع هو وزوجته وطفلاه وأنا. اثنان للروح وللجسد. أربعة؟... دقت الساعة الحائطية أربع دقات. أربع دقات معلنة موتي على أرضية الحمام يوم السادس والعشرين من هذا الشهر.

اليوم السادس والعشرون:

بعد ذلك اللقاء افترقنا. في الصباح الباكر ليوم السادس والعشرين افترقنا. خرجت من باب الفندق وقلبي يخفق بألم. كتمت الدموع في عيني. لفني الهواء البارد في الخارج. لم أحس بالبرد، كنت أشتعل، بل أغلي. عيناي كجمرتين مشتعلتين متأهبتين للانهمار. أكره البكاء. حاولت كبح نفسي عن فعل ذلك. نسمات الصباح الباردة كانت كافية لتطفئ اشتعال حرارة عيني. هكذا أحسن. انعطفت إلى اليمين لأجد الشارع الرئيس أمامي والحديقة... البارحة توقفنا أنا وهو في الحديقة. غاص قلبي واشتعلت عيناي من جديد. أشحت بنظري. ما أحتاجه الآن هو فنجان قهوة. دلفت إلى باب المقهى بسرعة، صعدت أدراج السلم، كالعادة مكاني في الركن الشمالي من الصالة ينتظرني كل صباح. لم يكن هناك أحد. لا، كان جالسًا هناك في الركن المقابل صحفي معروف، ابتسمت. هو الآخر وفيٌ للمكان. دائمًا أجده في  المكان نفسه وفي الوقت نفسه وأحيانًا أسبقه حين أبكر بالمجيء، إلا أني دائمًا أغادر بعده، لأني أحب الاستمتاع بقهوة الصباح. هذا اليوم سأغادر قبله. بدأت أكره المدينة التي أهدتني السعادة، سعادة اللحظات المتقطعة. عدت إلى البيت، أحمل كل شيء، حتى الموت أحمله على أكفِّ أمينة. موسيقى إديث بياف تصدح من هاتفي... هو. نبرة الصوت نفسها،  الكلمات الملغومة بالشوق واللوعة ذاتها. أقف باردة على الشرفة، أسمعه بتمعن وأرد عليه بكلمات محبطة. أحسب دائمًا كلماتي معه، كلمة كلمة قبل النطق بها. وحين يقفل الخط، أشتاق إليه. هل لي الحق في الاشتياق؟ أو حتى البوح بهذا الاشتياق؟ هل لي الحق بالاعتراف؟ لست أدري. هو لا يكف عن الاتصال بي في اليوم خمس مرات. أصبحت صلاته، صلاة الأحاسيس الملتهبة، لا معنى لها، لكنها تصل إلى أعماقي ولا أسمعها أتنفسها فقط بصمت. صمت.

التقينا للمرة الخامسة. هذه المرة في مقهى غريب. الغرابة ليست في المكان بل الغرابة في الإحساس الذي أحسسته وأنا ادخل ذلك المقهى الحجري الذي يطل على البحر. جلس بقربي وهو يرتعش. أحسست بهذا. كان يرتعش من الداخل، دخان سيجارته ونظراته تقول ذلك، وحتى لو كان العكس فأنا أريده أن يرتعش لا لشيء سوى لأشعر بما كان يخالجني من ارتعاش في كل أنحاء جسدي. أمسك يدي وضمني إلى صدره بعد أن سحق سيجارته في المنفضة. بطريقة ما كنت أنا من أسحق. قال إنه اشتاق إليّ، وإنه يرغب فيّ دائمًا. قال أنا وردته الدافئة التي لا تنطفئ أبدًا. شعرت ببرد غريب يلف أضلعي. قال لمَ أنا دائمًا صامتة لا أتكلم؟ لكني أتكلم طوال الوقت، نادرًا ما أصمت. ألأنني أقول الكثير من الأشياء التافهة؟ قال إنه يريد سماع كلمات رقيقة تنعش قلبه المريض. أخرج سيجارة أخرى وأشعلها. صمتت. فكرت بصمت. قلت، وكانت تلك أول مرة أقول له فيها بأني أشتاق إليه دائمًا، في اليوم مليون مرة. صمتت. نفث دخانًا كثيفًا مليئًا بالرغبة. ابتسم وعانقني هذه المرة بقوة أكبر. قال بأنه يحبني ويريدني أن أبقى معه دائمًا. أطفأ السيجارة. كانت أول مرة يطفئ السيجارة في منتصفها. ضغط يدي. فهمت. أردت الرد. كل الكلمات التي تسارعت إلى فمي أوقفتها. ليس لي الحق في الرد. أنا أيضًا أحبك، قلت في نفسي،أحبك بكل ما أوتيت من قوة، لكن ليس لي الحق في قولها... لن أقولها أبدًا. الوردة الدافئة لا تتكلم. تعبر بصمت. الجمال والدفء يقولان كل شيء. خرجنا من المقهى. هذه المرة أصبح المكان أكثر غرابة من اللحظة التي دخلت فيها إلى المقهى. افترقنا أمام باب العمارة حيث شقتي. ودعني وهو محبط. أنا كنت ساهمة. العشيقة تصنيف ملغوم لا أحد يفهم كنهه. أن لا يكون لها الحق بالإحساس، بالتعبير عن الإحساس بالاعتراض أو بالرفض، بالاشتياق أو باللمس أو بالحب، بالاعتراف بالنشوة أو بالامتلاك أو بالغضب أو بالسؤال أو بالاتصال أو بالخوف أو بالأمان أو بالغيرة... فكرت... ربما لن أكون سوى عاهرة من تصنيف آخر. خائنة مسمومة لزوجة ترقد بسلام في بيتها. ليس باستطاعتي أن أكون إلا وردة دافئة تعبق بعطر أنوثة أزلي ينتمي لزمن راكد، للحظة. للحظة فقط. لليوم الرابع والعشرين.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق